فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

{وقضى رَبُّكَ} أي حكم وألزم وأوجب، أو أمر ويدل على ذلك ما في مصحف ابن مسعود: {ووصى ربك} {أَلاَّ تعبدوا} أن مفسرة أو مصدرية على تقدير: بأن لا تعبدوا {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ} هي إن الشرطية دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها فلا تقل لهما أف، والمعنى الوصية ببر الوالدين إذا كبرا أو كبر أحدهما وإنما خص حاله الكبر؛ لأنهما حينئذ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما، لضعفهما ومعنى عندك: أي في بيتك وتحت كنفك {أُفٍّ} حيث وقعت اسم فعل، معناها قول مكروه، يقال عند الضجر ونحوه، وإنما المراد بها أقل كلمة مكروهة تصدر من الإنسان، فنهى الله تعالى أن يقال ذلك للوالدين، فأولى وأحرى ألا يقال لهما ما فوق ذلك، ويجوز في أفّ الكسر والفتح والضم، وهي حركات بناء، وأما تنوينها فهو للتنكير {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} من الانتهار وهو الإغلاظ في القول {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} استعارة في معنى التواضع لهما والرفق بهما، فهو كقوله: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] وأضافه إلى الذل مبالغة في المعنى كأنه قال: الجناح الذليل، ومن في قوله من الرحمة للتعليل أي من أجل إفراط الرحمة لهما والشفقة عليهما {لِلأَوَّابِينَ} قيل: معناه الصالحين، وقيل: المسبّحين، وهو مشتق من الأية بمعنى الرجوع، فحقيقته الراجعين إلى الله.
{وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} خطاب لجميع الناس لصلة قرابتهم والإحسان إليهم، وقيل: وهو خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي قرابته حقهم من بيت المال، والأول أرجح {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ} الآية: معناه إن أعرضت عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم، فقل لهما كلامًا حسنًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد فلم يكن عنده ما يعطيه أعرض عنه، حياء منه، فأمر بحسن القول مع ذلك وهو أن يقول: رزقكم الله وأعطاكم الله وشبه ذلك، والميسور مشتق من اليسر {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} مفعول من أجله، يحتمل أن يتعلق بقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} والمعنى على هذا: أنه يعرض عنهم انتظارًا لرزق يأتيه، فيعطيه إياهم، فالرحمة على هذا هو ما يرتجيه من الرزق أو يتعلق بقوله: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا} أي ابتغ رحمة ربك بقول ميسور، والرحمة على هذا هي: الأجر والثواب.
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} استعارة في معنى غاية البخل؛ كأن البخيل حبست يده عن الإعطاء، وشدت إلى عنقه {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} استعارة في معنى غاية الجود، فنهى الله عن الطرفين: وأمر بالتوسط بينهما: كقوله: {إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] {مَلُومًا} أي يلومك صديقك على كثرة عطائك وإضرارك بنفسك، أو يلومك من يستحق العطاء؛ لأنك لم تترك ما تعطيه، أو يلومك سائر الناس على التبذير في العطاء {مَّحْسُورًا} أي منقطعًا لا شيء عندك، وهو من قولهم: حسر السفر البعير إذا أتعبه حتى لم تبق له قوة {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء فلا تهتم بما تراه من ذلك، فإن الله أعلم بمصالح عباده.
{وَلاَ تقتلوا أولادكم} ذكر في الأنعام [الأنعام: 151] {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} الحق الموجب لقتل النفس هو ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس أخرى» وتتصل بهذه الأشياء أشياء أخر؛ لأنها في معناها كالحرابة وترك الصلاة ومنع الزكاة {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} المظلوم هنا من قتل بغير حق، والولي هو ولي المقتول وسائر العصبة، وليس النساء من الأولياء عند مالك، والسلطان الذي جعل الله له هو: القصاص، بأن يقتل غير قاتل وليه، أو يقتل اثنين بواحد وغير ذلك من وجوه التعدي، وقرئ فلا تسرف بالتاء خطابًا للقاتل، أو لوليّ المقتول {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} الضمير للمقتول أو لوليه، ونصره هو القصاص.
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} ذكر في [الأنعام: 152] قال بعضهم: لا تقربوا ولا تقتلوا معطوفان على ألا تعبدوا، والظاهر أنهما مجزومان بالنهي بدليل قوله بعدها: ولا تقفُ ولا تمشِ، ويصح أن تكون معطوفات على إذا جعلنا ألا تعبدوا مجزومًا على النهي وأن مفسرة {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} عام في العهود مع الله ومع الناس {إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولًا} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معنى الطلب: أي يطلب الوفاء به والثاني: أن يكون المعنى يسأل عنه يوم القيامة، هل وفي به أم لا {وَزِنُواْ بالقسطاس} قيل: القسطاس الميزان، وقيل: العدل وقرئ بكسر القاف وهي لغة {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي أحسن عاقبة ومآلًا، وهو من آل إذا رجع.
{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} المعنى لا تقل ما لا تعلم من ذم الناس وشبه ذلك، واللفظ مشتق من قفوته إذا اتبعته {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} أولئك إشارة إلى السمع والبصر والفؤادُ وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك، لأنها حواس لها إدراك، والضمير في عنه يعود على كل ويتعلق عنه بمسؤولًا، والمعنى إن الإنسان يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده، وقيل: الضمير يعود على ما ليس به علم، والمعنى على هذا أن السمع والبصر والفؤاد هي التي تسأل عما ليس لها بها علم وهذا بعيد.
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا} المرح الخيلاء والكبر في المشية، وقيل: هو إفراط السرور بالدنيا وإعرابه مصدر في موضع الحال {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} أي لن تجعل فيها خرقًا بمشيك عليها، والخرق هو: القطع، وقيل: معناه لا تقدر أن تستوفي جميعها بالمشي، والمراد بذلك تعليل النهي عن الكبر والخيلاء، أي إذا كنت أيها الإنسان لا تقدر على خرق الأرض، ولا على مطاولة الجبال، فكيف تتكبر وتختال في مشيك، وإنما الواجب عليك التواضع.
{كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} الإشارة إلى ما تقدم من المنهيات والمكروه هنا بمعنى: الحرام، لا على اصطلاح الفقهاء في أن المكروه دون الحرام، وإعراب مكروهًا نعت لسيئة أو بدل منها، أو خبر ثان لكان.
{أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين} خطاب على وجه التوبيخ للعرب الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله، والمعنى: كيف يجعل لكم الأعلى من النسل وهو الذكور، ويتخذ لنفسه الأدنى وهو البنات ومعنى أصفاكم: خصكم {قَوْلًا عَظِيمًا} أي عظيم النكر والشناعة.
{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلًا} هذا احتجاج على الوحدانية، وفي معناه قولان: أحدهما: أن المعنى لو كان مع الله آلهة لابتغوا سبيلًا إلى التقرب إليه بعبادته وطاعته، فيكون من جملة عباده، والآخر: لابتغوا سبيلًا إلى إفساد ملكه ومعاندته في قدرته، ومعلوم أن ذلك لم يكن فلا إله إلا هو.
{تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض} الآية: اختلف في كيفية هذا التسبيح فقيل: هو تسبيح بلسان الحال أي بما تدل عليه صنعتها من قدرة وحكمة، وقيل: إنه تسبيح حقيقة وهذا أرجح لقوله: لا تفقهون تسبيحهم {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا} في معناه قولان: أحدهما: أن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يستره من الكفار إذا أرادوا به شرًا، ويحجبه منهم، والآخر: أنه يحجب الكفار عن فهم القرآن، وهذا أرجح لما بعده، والمستور هنا قيل: معناه مستور عن أعين الخلق، لأنه من لطف الله وكفايته فهو من المغيبات، وقيل: معناه ساتر.
{أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} جمع كنان وهو الغطاء، وأن يفقهوه مفعول من أجله تقديره: كراهة أن يفقهوه، وهذه استعارات في إضلالهم.
{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ} معناه إذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى فرّ المشركون من ذلك، لما فيه من رفض آلهتهم وذمها. نفورًا مصدر في موضع الحال {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} كانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء، والضمير في به عائد على ما: أن نعلم ما يستعمون به من الاستهزاء {وَإِذْ هُمْ نجوى} جماعة يتناجون أو ذو نجوى، والنجوى كلام السر {رَجُلًا مَّسْحُورًا} قيل: معناه جنّ فسحر وقيل: معناه ساحر، وقيل هو من السّحر بفتح السين وهي الرئة: أي بشر إذا سحر مثلكم وهذا بعيد.
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} أي مثلوك بالساحر، والشاعر، والمجنون {فَضَلُّواْ} عن الحق {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلًا} إلى الهدى؛ ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة، وأصحابه من الكفار {وقالوا أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا} الآية معناها إنكار للبعث، واستبعادهم أن يخلقهم الله خلقًا جديدًا بعد فنائهم، والرفات الذي بلي حتى صار غبارًا أو فتاتًا، وقد ذكر في سورة [الرعد: 5] اختلاف القراء في الاستفهامين. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ولما ذكر تعالى ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائعه وذلك أنواع الأوّل أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى ويتحرّز عن عبادة غيره وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وقضى} أي: أمر {ربك} أي: المحسن إليك وقوله تعالى: {أن لا تعبدوًا} أي: أنت وجميع أهل دعوتك وهم جميع الناس {إلا إياه} فيه وجوب عبادة الله تعالى والمنع من عبادة غيره لأنّ العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله تعالى فكان هو المستحق للعبادة لا غيره.
تنبيه:
روى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرئ وقضى ربك ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأنّ خلاف قضاء الله ممتنع وهذا القول كما قاله الرازي بعيد جدًّا إذ لو فتح هذا الباب لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين ويندفع ما قاله بما فسر قضى به. ولما أمر تعالى بعبادة نفسه أتبعه بالأمر ببر الوالدين بقوله تعالى: {وبالوالدين} أي: وأحسنوا أي: وأوقعوا الإحسان بهما. {إحسانًا} أي: بأن تبروهما ليكون الله معكم فإنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
تنبيهان:
أحدهما المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى والأمر ببر الوالدين من وجوه الأوّل أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده والسبب الظاهر هو الأبوان فأمر الله تعالى بتعظيم السبب الحقيقي ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري. الثاني: أنّ الموجود إمّا قديم وإمّا محدث ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الموجود القديم بالتعظيم والعبودية ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وأحق الخلق بالشفقة الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان» فقوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى. وقوله تعالى: {بالوالدين إحسانًا} إشارة إلى الشفقة على خلق الله. الثالث: أنّ الاشتغال بشكر المنعم واجب ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى وقد يكون بعض المخلوقين منعمًا عليك وشكره أيضًا واجب لقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل الأبوين لأن الولد قطعة من الوالدين قال صلى الله عليه وسلم: «فاطمة بضعة مني» وأيضًا شفقة الوالدين على الولد عظيمة وإيصال الخير إلى الولد منهما أمر طبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعي أيضًا فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة بل هي أكبر من كل نعمة تصل من الإنسان إلى الإنسان وأيضًا حال ما يكون الإنسان في غاية الضعف ونهاية العجز يكون إنعام الأبوين في ذلك الوقت واصلًا إلى الولد، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه كان موقعه عظيمًا وأيضًا فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فكان الإنعام فيه أتم وأكمل فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق وهو قوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانًا}. فإن قيل: الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهمًا فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخالفات فأي: إنعام للأبوين على الولد، حتى أنّ بعض المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة وقيل لأبي العلاء المعري ماذا نكتب على قبرك فقال: اكتبوا على قبري: هذا جناية أبي علي وما جنيت على أحد. وقال في ترك التزوج والولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي ** فيهم لقد سبقت نعيم العاجل

ولو أنهم ولدوا لعانوا شدّة ** ترمي بهم في موبقات الآجل

وقيل لإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: أستاذي أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد عند تعليمي فأوقعني في نور العلم، وأمّا الوالد فإن طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن الكلمات المأثورة المشهورة خير الآباء من علمك. أجيب: بأنه وإن كان في أوّل الأمر طلب لذة الوقاع إلا أنّ الاهتمام بإيصال الخيرات إليه ودفع الآفات عنه من أوّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهات الخيرات والمبرات فسقطت تلك الشبهات.
التنبيه الثاني: أن لفظ الآية يدل على معان كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين منها أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا} ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة وجعل من جملتها البر بالوالدين، وذلك يدل على أنّ هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة، ومنها أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى وثلث ببر الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة منها أنه تعالى لم يقل وإحسانًا بالوالدين بل قال {وبالوالدين إحسانًا} فتقديم ذكرهما يدل على شدّة الاهتمام بهما. ومنها أنه تعالى قال: {إحسانًا} بلفظ التنكير، والتنكير يدل على التعظيم أي: إحسانًا عظيمًا كاملًا لأنّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ثم على جميع التقديرات لا تحصل المكافأة لأن إنعامهما عليك على سبيل الابتداء. وفي الأمثال المشهورة أنّ البادئ بالبرّ لا يكافأ.